الرسول والنبي,مقاربة في المفهوم:
- النبي في اللغة :
إن النبي على وزن فعيل، معلول الآخر، فإن كل مهموزاً فهو من النبأ بمعنى الخبر، قال تعالى : ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ العَظِيمِ)) ، وسمى النبي نبيئاً لأنه مخبَر من الله، مخبِر عنه، قال تعالى : ((قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ)) [التحريم /3] ، وقال
(نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ))، [الحجر / 149]، وقال : ((ونَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ)) [الحجر/ 51].
فالنبي هو الذي يخبَر من الله ، ما يخبره به ملك الوحي ، ويبلغهم أمره ونهيه ووحيه.
وهو فعيل بمعنى فاعل أو مفِعل مثل أليم بمعنى مؤلم.
ويجوز أن يكون مأخوذاً من "النبء" بمعنى المرتفع ، والنبأة : النَّشَز من الأرض . والنبىء : الطريق الواضح.
وإذا كان صحيحاً فجمعه على فعلاء "نبآء" وقال الجوهري : يجمع أنبياء ، لأن الهمز لما أبدل ، وألزم الإبدال جمع جمع ما أصل لامه حرف العلة . وأما إن كان معلول الآخر فهو مأخوذ من النبوة والنباوة ، وهى الارتفاع عن الأرض ، أي أنه أشرف على سائر الخلق ، فأصله غير الهمز .
وقال سيبويه : ليس أحد من العرب إلا ويقول : تنبأ مسيلمة بالهمز . غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية ، والخابية ، إلا أهل مكة ، فإنهم يهمزون هذه الأحرف ، ولا يهمزون غيرها ، ويخالفون العرب في ذلك . قال : والهمز في النبي لغة رديئة.
وقال الزجاج: القراءة المجمع عليها في النبيين والأنبياء طرح الهمزة ، وقد همز جماعة من أهل المدينة جميع ما في القرآن من هذا.
والنبي هو الطريق ، قال الكسائي : النبي : الطريق ، والأنبياء : طرق الهدى ، قال أبو معاذ النحوي : سمعت أعرابياً يقول : من يدلني على النبي أي على الطريق.
والنبي : العلم من أعلام الأرض التي يهتدى بها . قال بعضهم : منه اشتقاق النبي ، لأنه أرفع خلق الله ، وذلك لأنه يهتدى به . والنبي معلول الآخر يجمع على الأنبياء كغني وأغنياء . والنبي سمي نبياً لأنه يجمع المعاني المذكورة كلها فهو الطريق الوحيد إلى الله ، وهو أكبر عالم في الطريق إلى الله ، وهو رفيع المنزلة ، ارتفع قدره لأنه شرف على سائر الخلق . ثم هو بعد ذلك يُنبئ بخبر السماء.
2- الرسول :
يطلق في اللغة على معنيين :
أولهما : الإرسال : التوجيه ، وقد أرسل إليه أي وجه ، قال تعالى عن بلقيس ملكة اليمن : ((وإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ)) [النمل /35] . والاسم الرسالة ، والرسول ، والرسيل . قال كثير عزة :
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ، ولا أرسلتهم برسيل
روي : برسول.
والرسول يطلق على الرسالة . يؤنث ويذكر ، ويطلق على المرسل ويستوي في رسول المذكر والمؤنث والواحد والجمع مثل عدو وصديق ، قال تعالى : ((إنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ)) وقال أبو ذؤيب الهذلي :
ألكنى إليها وخيـر الـرسـو ل أعلـمـهم بنـواحي الخبـر
أراد خير الرسل ، فوضع الواحد موضع الجمع كقولهم : كثر الدينار والدرهم . أي كثرت الدراهم والدنانير .
وثانيهما : المتابعة . قال تعالى : ((ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون / 44] ، قال ابن عباس في تفسير ((تترى)) يعني يتبع بعضهم بعضاً (1). وقد أخذ هذا المعنى من قوله: »جاءت الإبل رسلاً« أي متتابعة. وقيل في معنى المتابعة : إن من يوحى إليه متابع للأخبار عن الله عز وجل ، فالرسول يتابع أخبار الذي بعثه ، أخذاً من قولهم الآنف ذكره.
الفرق بين النبي والرسول :
لدينا في هذه المسألة أربعة أقوال، وكل قول له أنصاره، ومؤيدوه وأدلة على ما ذهبوا إليه.
وأول هذه الأقوال : قول من قال : إنهما لفظان مترادفان ، وفي الشفاء للقاضي عياض 1/488 »مثل : هما سواء ، وأصله من الإنباء وهو الإعلام . واستدلوا بقوله تعالى : ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلاَّ إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)) فقد أثبت لهما معاً الإرسال ، قال : ولا يكون النبي إلا رسول ؛ ولا الرسول إلا نبياً.
والناظر في النصوص الأخرى يجد ما يرد هذا الرأي ويضعفه ، وأول هذه النصوص الآية المذكورة آنفاً ، وهي دليلهم على ما قالوا إذ فرق الله تعالى بين الاسمين ، ولو كانا شيئاً واحداً لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ [انظر الشفاء 488].
ووصف الله بعض رسله ، بالنبوة والرسالة ، قال تعالى عن نبيه موسى -صلى الله عليه وسلم- : ((واذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وكَانَ رَسُولاً نَّبِياً)) ، فجمع بين النبوة والرسالة بالعطف بالواو ، وهذا يدل على أنهما لفظان متغايران ، أو أن أحدهما يشتمل على معنى زائد عن الآخر ، ولا يجوز عطف المتماثلين من كل وجه.
ويضعفه الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند ، والحاكم في المستدرك وابن حبان عن أبي ذر --رضي الله عنه- أنه قال : »قلت : يا رسول الله كم المرسلون ؟ قال : ثلاثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً« وفي رواية أبي أمامة قال أبو ذر : »قلت : يا رسول الله ، كم وفاء عدة الأنبياء ؟ قال : مائة ألف ، وأربعة عشر ألفاً ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً«.
فهذه النصوص كلها صريحة في رد رأي من يقول بترادف اللفظين ، ولم يبق أمامنا إلا أن نقول: إنهما مفترقان من وجه ، ويجتمعان من وجه ، وتلمساً لهذا الفرق ، قال بعضهم: إن النبي من أوحى إليه بشرع ، ولم يؤمر بالتبليغ ، والرسول من أوصي إليه ، وأمر بالتبليغ . واستدلوا لرأيهم بقوله تعالى : ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلاَّ إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)) . إذ قالوا : المعنى : »وما أرسلنا من رسول إلا أمة ، أو نبي وليس بمرسل إلى أحد« . واستدلوا بالمدلول اللغوي للكلمتين ، فالنبي مأخوذ من الإنباء والنبأ وهو الخبر بينما الرسول مأخوذ من البعث والتوجيه.
وهذا الرأي لا يخلو من ضعف ، لأن الله قد نص على إرسال الرسل والأنبياء في الآية المذكورة ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلاَّ إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)) فالرسل والأنبياء مرسلون ، وهم يقولون : المرسلون الرسل ، دون الأنبياء.
2- قول الله تعالى : ((ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)) [الأعراف 56] . وتقول الملائكة : ((رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وعِلْماً)) [غافر 7] ، والرحمة من معانيها النبوة، قال تعالى: ((أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)) وفي ترك البلاغ والإنذار كتمان لرحمة الله ، وتضييق لها ، وتحجير لواسعها ، وجحد لنعمة الله التي أمر نبيه أن يحدث بها ((وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) ، وأعظهم رحمة ، وأكبر نعمة هي رحمة الهداية ، ولم يثبت بنص صحيح أن الله اختص نبياً من الأنبياء ، وأوحى إليه وحياً ، وقال له : هذا لك خاصة لا يشركك فيه الناس.
3- النصوص في القرآن والسنة تبين أن الأنبياء كانوا يقاتلون في سبيل الله ، والقتال من أكبر وأعظم واجبات الدعوة والتبليغ ، قال تعالى : ((أَلَمْ تَرَ إلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الـقِـتَـالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا)) [البقرة /246-252].
وروى مسلم والإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : »غزا نبي من الأنبياء ، فقال لقومه : لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة ، وهو يريد أن يبني بها ولما يبن ، ولا آخر قد بنى بنياناً ، ولم يرفع سقفها ، ولا آخر قد اشترى غنيمات أو خلفات وهو ينتظر أولادها ، فغزا ، فدنا من القرية حين صلى العصر ، أو قريباً من ذلك. فقال للشمس : أنت مأمورة ، وأنا مأمور ، اللهم أحبسها علي شيئاً«.
وقال تعالى : ((إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ واخْشَوْنِ ولا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ومَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ)) [المائدة /44].
4 - ما رواه البخاري 11 /405 ومسلم من حديث ابن عباس أنه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : »عرضت علي الأمم ، فأخذ النبى يمر معه الأمة ، والنبى يمر معه العشرة ، والنبى يمر معه الخمسة ، والنبي يمر وحده ، فنظرت فإذا سواد كثير ، قلت: يا جبريل، هؤلاء أمتي ؟ قال لا ، ولكن انظر إلى الأفق ، فنظرت فإذا سواد كثير ، قال: هؤلاء أمتك.. الخ« ووجه الاستدلال تفاوت الإجابة من الأمم ، وهذا لا يكون إلا بعد دعوة من الأنبياء. ثم إن هذا الحديث قد يكون في مقام عزاء الرسول لقلة من أجابه ، وآمن به ، وفي مقام تبشيره ، فناسب عرض الأمم السابقة وكأن الحديث يقول : إن هؤلاء على ما بذلوه بين جهد في الدعوة ، أنت أكثر منهم أمة. والله أعلم .
5 - إن اتباع الأنبياء -وهم لا يوحى إليهم- مطالبون بالتبليغ ، والدعوة والجهاد فكيف بالأنبياء وهم أفضل ، وقد اختصهم الله بالوحي ، قال تعالى ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُـــو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي)) وقال تعالى ((ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَــمِــلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ)) وقال - صلى الله عليه وسلم - :"بلغوا عني ولــو آيـــة فرب مبلغ أوعى من سامع ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". وقال : »لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم« ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : »من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على النفاق« .
وقال فريق آخر : إن الرسول من أوحي إليه بشرع جديد ، والنبي من لم يوح إليه بشرع جديد. وإن أمر بالإبلاغ والإنذار(2).
ولا أعلم لهؤلاء دليلاً على قولهم هذا إلا استقراء متفوضاً بمثل يوسف ، فقد كان رسولاً وكان على ملة إبراهيم ، وداود وسليمان كانا رسولين ، وكانا على شريعة التوراة ، قال تعالى عن مؤمن من آل فرعون : ((ولَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً )) وقال تعالى ((إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ والنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ والأَسْبَاطِ وعِيسَى وأَيُّوبَ ويُونُسَ وهَارُونَ وسُلَيْمَانَ وآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * ورُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ورُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ))[النساء:163-164].
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في التفريق بينهما إلى أن الرسول هو من يبعث إلى مخالفين أي قوم كافرين ، فيدعوهم إلى الإسلام ، والنبي هو من يرسل إلى موافقين يقيم فيهم حكم الله الذي يعرفونه ويؤمنون به. قال في كتاب النبوات : »النبى هو الذي ينبئه الله ، وهو ينبئ بما أنبأ به فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول ، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسله هو إلا أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول . قال تعالى ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلاَّ إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ))[الحج 52 ،53] ، وقوله ، ((مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ)) فذكر إرسالاً يعم النوعين، وقد خص أحدهم بأنه رسول ، فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح ، وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض وقد كان قبله أنبياء كشيت وإدريس وقبلهما آدم كان نبياً مكلماً ، قال ابن عباس : »كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام« فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنون الذين عندهم لكونهم مؤمنين بهم ، كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول ، وكذلك أنبياء بني إسرائيل يأمرون بشريعة التوراة ، وقد يوحى إلى أحدهم وحي خاص في قضية معينة ، ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالم الذي يفهمه الله في قضية معنى يطابق القرآن ، كما فهّم الله سليمان حكم القضية التى حكم فيها هو وداود ، فالأنبياء ينبئهم الله فيخبرهم بأمره ونهيه وخبره ، وهم ينبئون المؤمنين بهم ما أنبأهم الله من الخبر والأمر والنهي ، فإن أرسلوا إلى كفار يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، ولابد أن يكذب الرسول قومٌ ، قال تعالى : ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)) ، وقال
( مَا يُقَالُ لَكَ إلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ)) . فإن الرسل ترسل إلى مخالفين فيكذبهم بعضهم ، وقال : ((ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ القُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ * حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ولا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ))، وقال: ((إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ))، فقوله : ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍ)) دليل على أن النبي مرسل . ولا يسمى رســــولاً عــنــد الإطلاق، لأنه لم يرسل إلى قوم بما لا يعرفونه، بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حق كالعالم، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »العلماء ورثة الأنبياء«.
وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة انتهى [172-173].
هذه هي الآراء في التفريق بين النبي والرسول ، والثلاثة الأخيرة تفرق بينهما وهو الصحيح . وقال القاضي عياض : والصحيح والذي عليه الجماء الغفير أن كل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولاً (3).
الحكمة من إرسال الرسل والأنبياء:
لما كان العقل البشري لا يتمكن من عبادة الله - تعالى - على الوجه الذي يرضاه ويحبه ، وكذلك لا يستطيع التنظيم والتشريع المناسب للأمة على اختلاف طبقاتها ؛ إذ لا يحيط بذلك إلا الله وحده ؛ كان من حكمة الله ورحمته أن أرسل الرسل وأنزل الكتب لإصلاح الخلق وإقامة الحجة عليهم ، قال - تعالى -: ((رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165].
فحكمة إرسال الرسل تتلخص في:
الأول: إقامة الحجة على الخلق حتى لا يحتج أحد على الله فيقول ((لَوْلا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونَخْزَى))[طه:134] ، لقد قطع الله هذه الحجة من أساسها بإرسال الرسل وتأييدهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم وصحة نبوتهم وسلامة طريقتهم.
الثاني: توجيه الناس وإرشادهم لما فيه الخير والصلاح لهم في دينهم ودنياهم ؛ فإن الناس مهما أوتوا من الفهم والعقل والذكاء لا يمكنهم أن تستقل عقولهم بالتنظيم العام المصلح للأمة بأكملها كأمة متماسكة متكافئة متساوية في إعطاء ذي الحق حقه ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفَرَاش - وهي الدواب التي تقع في النار - يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها" رواه البخاري.
فالرسل يذودون الناس عما يضرهم ويدعونهم إلى ما ينفعهم.
الثالث: جمع الأمة على دين واحد ورجل واحد ، فإن انقياد الناس لما يشاهدونه من الآيات المؤيدة للأنبياء أسرع وأقوى وأشد تماسكاً ؛ فإنهم يجتمعون عليه عن عقيدة راسخة وإيمان ثابت فيحصل الصلاح والإصلاح.